اتفاقات على الورق ونار على الأرض.. شبح الحرب يعود باشتباكات عنيفة بين باكستان وأفغانستان

اتفاقات على الورق ونار على الأرض.. شبح الحرب يعود باشتباكات عنيفة بين باكستان وأفغانستان

اتفاقات على الورق ونار على الأرض.. شبح الحرب يعود باشتباكات عنيفة بين باكستان وأفغانستان
أفغانستان

على تخوم الصحراء الوعرة الممتدة بين سبين بولدك وتشامان، عاد صوت المدفعية ليملأ سماء الحدود الأفغانية–الباكستانية، في مشهد يعكس هشاشة الهدوء الذي بدا، قبل أسابيع فقط، وكأنه بداية صفحة جديدة بين الجانبين، فعلى الرغم من المساعي الإقليمية والدولية لتثبيت وقف إطلاق النار الذي رعته قطر وتركيا قبل أقل من شهرين، انفجرت التوترات مجددًا على أحد أكثر الخطوط الحدودية اضطرابًا في آسيا، مفتتحة جولة قتال عنيفة حصدت أرواح مدنيين وأعادت آلاف العائلات إلى حالة نزوح قسري، المواجهات الجديدة، التي اندلعت تحت جنح الليل واستمرت ساعات طويلة، لم تكن مجرد حادث ميداني عابر، بل تجسيدًا لحالة احتقان سياسي وأمني متراكم بين كابول وإسلام آباد، تُغذّيه اتهامات متبادلة بدعم جماعات مسلحة وتدخلات عبر الحدود، وبدا واضحًا أن العنف الأخير ليس سوى حلقة أخرى في سلسلة صدامات تتفاقم منذ عودة حركة طالبان إلى الحكم عام 2021، وسط غياب إطار دبلوماسي قادر على احتواء الانفجارات المتكررة وبناء حد أدنى من الثقة.

عنف.. واتهامات متبادلة


اندلعت الاشتباكات الأخيرة قرب معبر سبين بولدك–تشامان عند نحو الساعة العاشرة والنصف من مساء الجمعة، وفق روايات متقاطعة من مسؤولين محليين في قندهار ومصادر أمنية باكستانية، وعلى مدى أربع ساعات، تبادل الطرفان القصف بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، في واحد من أعنف المواجهات منذ جولة القتال الواسعة مطلع العام الجاري. 

وأسفرت الهجمات عن مقتل أربعة مدنيين وإصابة آخرين داخل الأراضي الأفغانية، فيما أُبلغ عن ثلاث إصابات في الجانب الباكستاني.

وتشير إفادات طبية وصلت إلى مستشفى قندهار إلى أن الضحايا قُتلوا داخل منازلهم بعد سقوط قذائف هاون على الأحياء القريبة من خط التماس، ما يؤكد الطبيعة العشوائية للقصف الذي دفع عشرات العائلات إلى الفرار سيرًا على الأقدام أو عبر سيارات محملة بما تيسر من المتاع.

ومع تبادل الاتهامات بين الطرفين، بدا الخطاب الرسمي أكثر حدة من المعتاد. فقد أعلن المتحدث باسم رئيس الوزراء الباكستاني أن مقاتلي طالبان "فتحوا النار دون مبرر" على مواقع حدودية، مؤكدًا أن القوات الباكستانية ردت "بشكل فوري وحاسم" وستواصل حماية أراضيها. وعلى الجانب الآخر، تحدثت حكومة طالبان عن "هجوم باكستاني جديد" اضطرتها قواتها إلى الرد عليه، مجددة خطابها المعتاد بأن إسلام آباد تسعى إلى "تصدير مشاكلها الأمنية الداخلية".

انهيار الاتفاق الهش


هذه التصريحات المتبادلة ليست جديدة، لكنها باتت تتكرر بوتيرة أعلى منذ العام الماضي، حين اتهمت باكستان سلطات كابول بإيواء عناصر من حركة تحريك طالبان باكستان (TTP) المتهمة بتنفيذ أكثر من 600 هجوم داخل الأراضي الباكستانية خلال عام واحد. 

ورغم نفي طالبان بشكل متكرر لهذه الاتهامات، إلا أن عدم قدرة الحركة على ضبط الحدود بشكل كامل، وتداخل العلاقات القبلية والميدانية في المناطق الجبلية، جعل من الصعب الفصل بين الجماعات المتطرفة في البلدين.

وتأتي الأحداث الأخيرة بعد اتفاق هش لوقف إطلاق النار رعته قطر وتركيا في وقت سابق هذا العام، وأنهى أسبوعًا دمويًا من القتال تسبب في سقوط عشرات القتلى وتدمير بنية تحتية قرب المعابر الحدودية، وإغلاق طريق تجاري يُعدّ شريانًا اقتصاديًا للمنطقة.

 ورغم أن الاتفاق نجح في تهدئة الجبهة فترة قصيرة، فإن جذور الأزمة ظلت قائمة: خلافات تاريخية حول ترسيم الحدود، توترات أمنية متصاعدة، وانعدام الثقة بين الحكومتين.

سبب الخلاف


ويمثل خط دوراند، الممتد على مسافة 2,600 كيلومتر، بؤرة الخلاف الأساسية، فمنذ رسمته بريطانيا في القرن التاسع عشر، لم تعترف الحكومات الأفغانية المتعاقبة بشرعيته، معتبرة أنه يقسم القبائل البشتونية. وفي مقابل ذلك، تصر باكستان على أنه حدود دولية ثابتة.

ومع بدء إسلام آباد بناء سياج حدودي عام 2022، تصاعدت الاشتباكات في المناطق المتداخلة، حيث تعتبر طالبان أن بناء الحاجز محاولة لفرض أمر واقع جديد.

ولم تخفف الجولات التفاوضية الأخيرة هذا الاحتقان. فقبل أيام من تجدد الاشتباكات، عقدت وفود من البلدين اجتماعًا في السعودية لبحث اتفاق أمني أوسع، إلا أن المحادثات انتهت دون تقدم ملموس، وفق مصادر مطلعة على محاور النقاش. 

وأكدت تلك المصادر أن الخلاف الأساسي ما يزال يتمحور حول آلية ضبط الحدود ودور كل طرف في ملاحقة الجماعات المتطرفة العابرة للحدود.

كارثة إنسانية


من الناحية الإنسانية، يشكل تجدد العنف كارثة إضافية للأهالي الذين يعتمدون على فتح المعابر في التجارة والتنقل والعلاج. فإغلاق الطريق بين كويتا وقندهار يتسبب في تعطيل الإمدادات الغذائية والدوائية إلى مناطق أفغانية تعاني أساسًا من أزمة اقتصادية خانقة، كما يؤدي توقف الحركة التجارية إلى خسائر كبيرة للتجار المحليين، ويهدد سلاسل الإمداد التي تعتمد عليها الأسواق في البلدين.

ويرى خبراء، أن استمرار هذا النهج من الاشتباكات المتفرقة قد يقود إلى انهيار كامل لمسار التهدئة الهش. فغياب آلية مراقبة دائمة، وتداخل الملفات الأمنية، وتعدد اللاعبين المحليين والإقليميين، يجعل أي اتفاق عرضة للانهيار عند أول احتكاك.

 ويعتقد محللون، أن كابول وإسلام آباد تتعاملان مع الأزمة من منظور أمني صرف، متجاهلتين الحاجة إلى إطار سياسي شامل يضع حدًا لدورات العنف المتكررة.

وفي ظل هذه المعطيات، تبدو المنطقة على حافة تصعيد جديد قد يدفع الحدود إلى مرحلة أكثر خطورة، خاصة مع تصاعد نشاط الجماعات المسلحة في أفغانستان وازدياد المخاوف الباكستانية من انتقال الهجمات إلى عمق أراضيها، وبينما تواصل العائلات الحدودية دفع الثمن الأكبر، يبقى مستقبل التهدئة معلقًا بمدى استعداد الطرفين للانتقال من تبادل الاتهامات إلى بناء قنوات تواصل مستقرة ومسؤولة.