بعد قرون من الذُعر والغموض.. علماء يكشفون سر الموت الأسود
بعد قرون من الذُعر والغموض.. علماء يكشفون سر الموت الأسود

في اكتشاف علمي مذهل، تمكن فريق من الباحثين من حل لغز استمرارية الطاعون الأسود، الذي يُعد أكثر الأوبئة فتكًا في تاريخ البشرية، حيث أودى بحياة ما يصل إلى نصف سكان أوروبا وغرب آسيا وإفريقيا خلال فترة انتشاره.
وكشفت دراسة حديثة نقلتها صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، أن تطور جين واحد في بكتيريا "يرسينيا بيستيس"، المسببة للطاعون الدبلي، هو العامل الرئيس الذي مكّن هذا المرض من البقاء والانتشار عبر قرون طويلة.
تفاصيل الدراسة العلمية
أُجريت الدراسة الجديدة بواسطة باحثين من جامعة ماكماستر في كندا ومعهد باستور في فرنسا، حيث ركزت على تحليل عينات من بكتيريا "يرسينيا بيستيس" المأخوذة من فترات زمنية مختلفة تمتد إلى ثلاثة أوبئة كبرى.
وأظهرت النتائج أن تطور هذه البكتيريا جعلها أقل فتكًا بمرور الوقت، مما سمح لها بالاستمرار في إصابة البشر عبر ثلاثة أوبئة رئيسة امتدت لأكثر من ألف عام.
الأوبئة الثلاثة الكبرى
طاعون جوستنيان: بدأ في القرن السادس الميلادي في بداية العصور الوسطى، واستمر لنحو 200 عام، مخلفًا دمارًا واسعًا في المناطق التي ضربها.
الطاعون الأسود: انطلق في منتصف القرن الرابع عشر، ويُعتبر الأكثر فتكًا في التاريخ البشري، حيث قضى على ما يصل إلى نصف سكان أوروبا وغرب آسيا وإفريقيا. استمر هذا الوباء في التفشي بشكل متقطع لقرون.
الوباء الثالث: بدأ في الصين في خمسينيات القرن التاسع عشر، ولا يزال يظهر في بعض المناطق، خاصة في أجزاء من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تُسجل حالات إصابة حتى اليوم.
الجين المسؤول عن الاستمرارية
كشفت الدراسة أن تطور جين واحد في بكتيريا "يرسينيا بيستيس" سمح لها بالتكيف والاستمرار في إصابة البشر. هذا التطور جعل البكتيريا أقل فتكًا، مما مكّنها من البقاء لفترات أطول داخل العائل البشري، حيث أتاح انخفاض الضراوة فرصًا أكبر لانتقال العدوى بين الأفراد.
أكد الباحثون هذه النظرية من خلال تجارب أجريت على فئران تم إصابتها بعينات حديثة من الطاعون، والتي أظهرت أن المرض استمر لمدة أطول عندما كانت الضراوة أقل.
أهمية الاكتشاف
أوضح البروفيسور هندريك بوينار، أحد كبار المؤلفين المشاركين في الدراسة، أن هذا البحث يُعد من الأوائل الذين يدرسون تغيرات مسبب مرضي قديم لا يزال موجودًا حتى اليوم، بهدف فهم العوامل التي تدفع ضراوة الأوبئة واستمراريتها أو انقراضها في نهاية المطاف.
وأضاف أن هذه النتائج قد تساعد في التنبؤ بالأوبئة المستقبلية واتخاذ تدابير وقائية لمنع تفشيها.
من جانبه، أشار المؤلف المشارك خافيير بيزارو-سيردا إلى أهمية فهم كيفية انتشار هذه الأوبئة، نظرًا للدور البارز الذي لعبته بكتيريا الطاعون في تاريخ البشرية.
وأكد أن هذا الاكتشاف يُوفر فهمًا شاملًا لكيفية تكيف مسببات الأمراض مع الظروف المختلفة، مما يساعد على تطوير استراتيجيات دفاعية فعالة.
أكثر الأمراض فتكًا في التاريخ
يُعد الطاعون، الناجم عن بكتيريا "يرسينيا بيستيس"، مسؤولًا عن بعض أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ، بما في ذلك طاعون جوستنيان، والطاعون الأسود، والأوبئة الكبرى التي اجتاحت الصين في أواخر القرن التاسع عشر.
وفي عام 1348، قضى الطاعون الأسود على نصف سكان لندن في غضون 18 شهرًا، حيث كانت الجثث تُكدَّس في مقابر جماعية. وفي الطاعون الكبير عام 1665، توفي خُمس سكان لندن، مع إغلاق المنازل المصابة ووضع علامات صليب حمراء على الأبواب مع عبارة "ربنا ارحمنا".
نظريات حول انتقال الطاعون
طالما اعتُبرت البراغيث التي تتغذى على الفئران المصابة ثم تنقل البكتيريا إلى البشر هي السبب الرئيس لانتشار الطاعون.
لكن خبراء حديثون يتحدون هذا الرأي، مشيرين إلى أن الفئران لم تكن شائعة في شمال أوروبا، التي تضررت بشدة من الطاعون مثل باقي القارة.
كما أن الطاعون انتشر بسرعة تفوق قدرة البراغيث على نقله. ويُعتقد أن معظم الناس في أوروبا عام 1346 كانوا يعانون من البراغيث والقمل بسبب قلة الاستحمام، مما قد يكون ساهم في تفشي المرض.
آفاق مستقبلية
على الرغم من أن المضادات الحيوية أصبحت قادرة على مكافحة الطاعون بفعالية، إلا أن هذا البحث يُلقي الضوء على كيفية تطور الأوبئة الأخرى.
ويؤكد الباحثون أن فهم هذه الآليات قد يساعد في تطوير تدابير وقائية لمواجهة الأوبئة المستقبلية، مما يعزز قدرة البشرية على حماية نفسها من التهديدات الصحية العالمية.