الظل النووي يعود إلى أوروبا.. واشنطن تعيد تسليح بريطانيا بعد غياب 15 عامًا
الظل النووي يعود إلى أوروبا.. واشنطن تعيد تسليح بريطانيا بعد غياب 15 عامًا

في تحول لافت يعيد إلى الأذهان مشاهد الحرب الباردة، عادت الأسلحة النووية الأميركية لتستقر على الأراضي البريطانية بعد انقطاع دام أكثر من 15 عامًا، في خطوة غير معلنة رسميًا ولكنها محمّلة برسائل استراتيجية عميقة، فبينما يتصاعد التوتر على الجبهة الشرقية لأوروبا بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، تتحرك واشنطن لتعزيز حضورها النووي ضمن حلف الناتو، وهذه المرة في قاعدة "ليكنهيث" البريطانية، التي طالما شكلت عقدة جوية رئيسية للعمليات العسكرية الأميركية، التحرك، الذي كشفت عنه مؤشرات لوجستية وتحليلات أمنية غربية، يعيد تموضع القنابل النووية إلى قلب المملكة المتحدة، في وقت يشهد تصعيدًا مستمرًا بين روسيا والغرب، ومع صمت رسمي من وزارتي الدفاع في لندن وواشنطن، تتزايد التساؤلات حول طبيعة "الردع النووي الجديد"، ودلالاته العسكرية والسياسية في لحظة تتشكل فيها معالم نظام دولي أكثر صرامة وخطورة.
عودة السلاح الأخطر
في خطوة مثيرة للجدل وذات أبعاد جيوسياسية خطيرة، أعادت الولايات المتحدة نشر أسلحة نووية في الأراضي البريطانية، تحديدًا في قاعدة "آر إيه إف ليكنهيث" بمقاطعة سوفولك، في سابقة لم تحدث منذ العام 2008.
هذه العودة، التي لم يُعلن عنها رسميًا، جاءت متزامنة مع سلسلة تطورات في المشهد الأمني الأوروبي، أبرزها: الحرب المستمرة في أوكرانيا، وتصاعد التوتر بين موسكو وعواصم الغرب.
بحسب تقرير لصحيفة "التايمز" البريطانية، فإن طائرة نقل عسكرية من طراز C-17 هبطت الخميس الماضي في القاعدة الجوية البريطانية، قادمة من قاعدة كيرتلاند الجوية في نيو مكسيكو، المعروفة باحتضانها منشآت تخزين للأسلحة النووية الأميركية.
الرحلة، التي ترافقت مع تقييد صارم للمجال الجوي فوق القاعدة، لم تكن مجرد مناورة تدريبية، بل يُرجّح أنها كانت عملية نقل دائمة لرؤوس نووية.
قاعدة ليكنهيث
مصادر أمنية أكدت للصحيفة، أن توقيت التحرك ليس عرضيًا، بل يأتي ضمن مراجعة شاملة لاستراتيجية الناتو النووية، وضمن جهود إعادة تموضع الأسلحة في مواقع أكثر قربًا من روسيا.
ويرى مراقبون، أن هذه الخطوة تسعى إلى بعث رسائل ردع صريحة إلى الكرملين، خصوصًا في ظل التلميحات الروسية المتكررة باستخدام "الردع الاستراتيجي" كسلاح نفسي في الصراع الأوكراني.
وقد أُعيد الحديث عن قاعدة ليكنهيث النووية في مارس الماضي عندما كشفت صحيفة "التلغراف" البريطانية عن وثائق أميركية غير سرية، نُشرت عن طريق الخطأ، تشير إلى تحضيرات لعملية نووية في القاعدة، ومنذ ذلك الحين، زاد الاهتمام الاستخباراتي والإعلامي حول نشاط الطيران العسكري الأميركي في المنطقة.
الردع المرن
رغم التعتيم الرسمي، فإن وزارة الدفاع البريطانية أشارت في وثيقة برلمانية نُشرت مؤخرًا، أن المملكة المتحدة تستعد لإعادة تفعيل "الدور النووي لسلاح الجو الملكي"، بعد نحو ربع قرن من سحب قنابل WE.177 النووية من الخدمة.
وهذا يعزز الترجيحات بأن القنابل النووية التي نُقلت إلى ليكنهيث قد تُدمج قريبًا ضمن ترسانة طائرات F-35A البريطانية المتطورة.
وتُعد هذه الطائرات من الجيل الخامس واحدة من أهم مقاتلات الناتو القادرة على حمل رؤوس نووية تكتيكية من نوع B61-12، وهي قنابل محدثة من حيث الدقة وقابلية التحكم بقوتها التفجيرية، ما يجعلها أكثر ملاءمة للاستخدام في سيناريوهات الردع المرن.
التحرك الأميركي أثار استياءً في موسكو، حيث علّق المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، قائلاً: إن "نشر الأسلحة النووية يعكس توجهاً نحو التصعيد والتسلح"، محذرًا من أن روسيا "لن تقف مكتوفة الأيدي".
وأضاف: أن الأجهزة الروسية تتابع التطورات عن كثب، وأن الرد سيكون "ضمن إجراءات حماية الأمن القومي".
تآكل الثقة
ويأتي هذا التحول بينما يتجه العالم نحو بيئة أمنية أكثر تقلبًا، مع تزايد التساؤلات حول فاعلية اتفاقيات الحد من التسلح، وتنامي النزعة نحو إعادة عسكرة الفضاء الأوروبي.
كما يعكس التحرك الأميركي رغبة واضحة في طمأنة حلفائها الأوروبيين الذين أبدوا قلقًا متزايدًا من تصعيد موسكو واختلال ميزان القوى التقليدي في شرق أوروبا.
من جانبه، يرى الدكتور محمد المنجي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن إعادة نشر الأسلحة النووية الأميركية في بريطانيا تمثل أكثر من مجرد إجراء عسكري، بل تعكس تحوّلًا بنيويًا في العقيدة الأمنية الغربية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ويوضح -في تصريحات لـ"العرب مباشر"-، أن هذا القرار "يشير إلى تآكل الثقة في قدرة الردع التقليدي على احتواء التهديدات الروسية، ويؤسس لمرحلة جديدة من التموضع الاستراتيجي للناتو على أطراف المجال الروسي".
ويضيف المنجي، أن اختيار بريطانيا تحديدًا يعكس رغبة أميركية في تعزيز الجناح الغربي للحلف، وربطه مباشرًا ببنية الردع النووي الأميركية، بعد أن ظلت لندن بعيدة عن هذا الدور منذ نهاية الحرب الباردة.
ويؤكد، أن "الخطوة تحمل رسائل مزدوجة: أولها لروسيا ومفادها أن الردع لم يمت، وثانيها للحلفاء الأوروبيين بأن واشنطن ما زالت الضامن الأول لأمن القارة، وإن بوسائل أكثر راديكالية"، لكنه يحذر من أن هذا التصعيد قد يؤدي إلى سباق تسلح جديد في أوروبا.