كيف تسللت بكين إلى مفاصل التجارة العالمية؟

كيف تسللت بكين إلى مفاصل التجارة العالمية؟

كيف تسللت بكين إلى مفاصل التجارة العالمية؟
الصين

برزت الموانئ في العقود الأخيرة بوصفها نقاط ارتكاز لا يمكن تجاهلها في معادلة التجارة العالمية، فكل ميناء هو معبر، وكل معبر هو قرار استراتيجي يتحكم بتدفق البضائع، ويعيد تشكيل النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي بين الدول. 

وعلى المسرح المتشابك، لم تدخل الصين اللعبة متأخرة، بل تسللت بهدوء وبراعة إلى هذه المفاصل، حتى باتت اليوم أحد أبرز اللاعبين الذين لا يمكن تجاوزهم.

من "الحزام والطريق" إلى قلب أوروبا

مع إطلاق مبادرة "الحزام والطريق" عام 2013، دشنت بكين تحولاً استراتيجيًا غير مسبوق في رؤيتها للتجارة العالمية، لم تعد الصين تعتمد فقط على تصدير البضائع، بل بدأت تبني الطرق التي تمر بها هذه البضائع، وبدلاً من انتظار عبور سفنها، صارت تملك المفاتيح، وتتحكم في البوابات.

في أوروبا، ركزت الصين على استثمار الفرص في الموانئ الحيوية، فاستحوذت تدريجيًا على حصص كبيرة في موانئ مثل: بيرايوس في اليونان وفالنسيا في إسبانيا، مستغلة أزمات اقتصادية وأوقات ضعف لاقتناص عقود الشراكة والسيطرة.

استراتيجيات التغلغل.. الاستحواذ الانتقائي

ما يميز التحرك الصيني أنه لم يكن عشوائيًا. فبدلاً من بناء الموانئ من الصفر في أوروبا كما فعلت في أفريقيا وآسيا، اعتمدت بكين نهج "الاستحواذ الانتقائي". 

وعند كل أزمة اقتصادية، تتدخل الشركات الصينية بأموال جاهزة، لتشتري أو تندمج مع مشغلي الموانئ المحليين، وتؤمن لنفسها موطئ قدم في أسواق حيوية.

ميناء فالنسيا يعد نموذجًا لهذا النهج، حيث استحوذت شركة كوسكو الصينية على حصة الأغلبية عام 2017، محققة بذلك نفوذًا في واحد من أكثر موانئ المتوسط ازدحامًا، واليوم، يرتبط الميناء بشبكة خطوط شحن كثيفة تجعل منه بوابة استراتيجية لصادرات الصين إلى عمق السوق الأوروبي.

وتحولت سلسلة الموانئ التي استثمرت فيها الصين إلى ما يشبه "عقد اللؤلؤ"، حيث تمتد من سواحل بحر الصين الجنوبي، مرورًا بجنوب آسيا، وصولاً إلى أوروبا وأفريقيا، هذا النسق البحري يمنح بكين القدرة على التنقل عبر ثلاثة ممرات رئيسية، الممر الشمالي عبر الخليج العربي، الممر الجنوبي عبر باب المندب وقناة السويس، الممر الاحتياطي عبر رأس الرجاء الصالح.

وفي كل من هذه المحاور، بنت الصين قواعد لوجستية، ومحطات للتخزين، وأدخلت أنظمة تشغيل ذكية، مما زاد من كفاءة حركتها التجارية، وقلل من اعتمادها على الممرات التي تهيمن عليها الولايات المتحدة.

التوترات الجيوسياسية.. واشنطن تتحرك

لم يمر الًنفوذ الصيني البحري دون إثارة مخاوف القوى الغربية. الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، باتت ترى في تمدد بكين تهديدًا مباشرًا لتوازن القوة حول الممرات البحرية الدولية، وعلى رأسها قناة بنما. 

وقد ظهر ذلك جليا في التدخل الأميركي الأخير لمنع استحواذ الصين على موانئ جديدة كانت مملوكة لشركة "سي كي هاتشيسون".

وتحركت إدارة ترامب لوقف الصفقة، وفرضت شروطًا مشددة على بيع أصول استراتيجية للصين، ما يكشف عن إدراك واشنطن المتأخر لحجم التأثير الذي باتت بكين تملكه في هذا القطاع.

التأثير الصيني الجديد.. ليس مجرد تجارة

ولا يمكن اختزال الحضور الصيني في الموانئ على أنه استثمار اقتصادي فقط، بل هو جزء من مشروع متكامل لإعادة تشكيل النظام العالمي، فهذه الموانئ ليست مجرد نقاط عبور للبضائع، بل باتت محطات تجسس، وأذرع تأثير سياسي، ومنصات لفرض الهيمنة الناعمة في البلدان المضيفة.

كما أن إدماج هذه الموانئ في منظومة تكنولوجية صينية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة، يعزز من تبعية الدول المضيفة للبنية التحتية الصينية، ويجعل الخروج منها مهمة بالغة الصعوبة.

ولقد نجحت الصين في إعادة تعريف معنى "النفوذ التجاري" في القرن الحادي والعشرين، وبدلاً من التوسع العسكري أو الهيمنة الثقافية، اختارت السيطرة على البنية التحتية الحيوية.